فصل: باب حكم المرتد

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **


 وَسئلَ ـ رحمه الله ـ عن الفتن التي تقع من أهل البر وأمثالها، فيقتل بعضهم بعضًا، ويستبيح بعضهم حرمة بعض‏:‏ فما حكم الله تعالي فيهم‏؟‏

فأجاب‏:‏

الحمد لله، هذه الفتن وأمثالها من أعظم المحرمات، وأكبر المنكرات، قال الله تعالي‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏102‏:‏ 106‏]‏، وهؤلاء الذين تفرقوا واختلفوا حتى صار عنهم من الكفر ما صار، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا ترجعوا بعدي كفارًا، يضرب بعضكم رقاب بعض‏)‏، فهذا من الكفر، وإن كان المسلم لا يكفر بالذنب، قال تعالي‏:‏ ‏{‏وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏9، 10‏]‏، فهذا حكم الله بين المقتتلين من المؤمنين‏:‏ أخبر أنهم إخوة، وأمر أولاً بالإصلاح بينهم إذا اقتتلوا ‏{‏فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى ‏}‏، ولم يقبلوا الإصلاح ‏{‏فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ‏}‏ ، فأمر بالإصلاح بينهم بالعدل بعد أن ‏{‏ تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ ‏}‏ أي‏:‏ ترجع إلي أمر الله‏.‏ فمن رجع إلي أمر الله وجب أن يعدل بينه وبين خصمه، ويقسط بينهما، فقبل أن نقاتل الطائفة الباغية وبعد اقتتالهما أمرنا بالإصلاح بينهما مطلقًا؛ لأنه لم تقهر إحدي الطائفتين بقتال‏.‏

/وإذا كان كذلك فالواجب أن يسعي بين هاتين الطائفتين بالصلح الذي أمر الله به ورسوله، ويقال لهذه‏:‏ ما تنقم من هذه‏؟‏ ولهذه ما تنقم من هذه‏؟‏ فإن ثبت علي إحدي الطائفتين أنها اعتدت علي الأخري بإتلاف شيء من الأنفس والأموال، كان عليها ضمان ما أتلفته‏.‏ وإن كان هؤلاء أتلفوا لهؤلاء، وهؤلاء أتلفوا لهؤلاء، تقاصوا بينهم، كما قال الله تعالي‏:‏ ‏{‏كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى ‏}‏، وقد ذكرت طائفة من السلف أنها نزلت في مثل ذلك في طائفتين اقتتلتا فأمرهم الله بالمقاصة، قال‏:‏ ‏{‏فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ ‏}‏، والعفو الفضل، فإذا فضل لواحدة من الطائفتين شيء علي الأخري ‏{‏فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 178‏]‏، والذي عليه الحق يؤديه بإحسان‏.‏ وإن تعذر أن تضمن واحدة للأخري، فيجوز أن يتحمل الرجل حمالة يؤديها لصلاح ذات البين، وله أن يأخذها بعد ذلك من زكاة المسلمين، ويسأل الناس في إعانته علي هذه الحالة وإن كان غنيا، قال النبي صلى الله عليه وسلم لقبيصة بن مخارق الهلالي‏:‏ ‏(‏يا قبيصة، إن المسألة لا تحل إلا لثلاثة‏:‏ رجل أصابته جائحة اجتاحت ماله، فيسأل حتى يجد سدادا من عيش، ثم يمسك، ورجل أصابته فاقة؛ فإنه يقوم ثلاثة من ذوي الحجي من قومه، فيقولون‏:‏ قد أصاب فلانًا فاقة، فيسأل حتى يجد قوامًا من عيش وسدادًا من عيش، ثم يمسك، ورجل يحمل حمالة فيسأل حتى يجد حمالته، ثم يمسك‏)‏‏.‏ والواجب علي كل مسلم قادر أن يسعي في الإصلاح بينهم، ويأمرهم بما أمر الله به مهما أمكن‏.‏

ومن كان من الطائفتين يظن أنه مظلوم مبغي عليه، فإذا صبر وعفي أعزه الله ونصره، كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏مازاد الله عبدًا بعفو إلا عزا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله، ولا نقصت صدقة من مال‏)‏، وقال تعالي‏:‏ ‏{‏وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ‏}‏ ‏[‏الشوري‏:‏40‏]‏، وقال تعالي‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ‏}

فالباغي الظالم ينتقم الله منه في الدنيا والآخرة؛ فإن البغي مصرعه، قال ابن مسعود‏:‏ ولو بغي جبل علي جبل لجعل الله الباغي منهما دكًا‏.‏ ومن حكمة الشعر‏:‏

قضي الله أن البغي يصرع أهله ** وأن علي الباغي تدور الدوائــر

ويشهد لهذا قوله تعالي‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُم مَّتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 23‏]‏، الآية، وفي الحديث‏:‏ ‏(‏ما من ذنب أحري أن يجعل لصاحبه العقوبة في الدنيا من البغي، وما حسنة أحري أن يجعل لصاحبها الثواب من صلة الرحم‏)‏، فمن كان من إحدي الطائفتين باغيا ظالما فليتق الله وليتب‏.‏ومن كان مظلومًا مبغيا عليه وصبر كان له البشري من الله، قال تعالي ‏{‏وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 155‏]‏، قال عمرو بن أوس‏:‏ هم الذين لا يظلمون إذا ظلموا، وقد قال تعالي للمؤمنين في حق عدوهم‏:‏ ‏{‏وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 120‏]‏، وقال يوسف ـ عليه السلام ـ لما فعل به إخوته ما فعلوا، فصبر واتقي حتى نصره الله ودخلوا عليه وهو في عزه، وقالوا‏:‏ ‏{‏أَإِنَّكَ لَأَنتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ وَهَـذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 90‏]‏،فمن اتقي الله من هؤلاء وغيرهم بصدق وعدل، ولم يتعد حدود الله، وصبر علي أذي الآخر وظلمه، لم يضره كيد الآخر، بل ينصره الله عليه‏.‏

وهذه الفتن سببها الذنوب والخطايا، فعلي كل من الطائفتين أن يستغفر الله ويتوب إليه، فإن ذلك يرفع العذاب، وينزل الرحمة، قال الله تعالي‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 33‏]‏، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من أكثر من الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجًا، ومن كل ضيق مخرجًا، ورزقه من حيث لا يحتسب‏)‏، قال الله تعالي‏:‏ ‏{‏الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللّهَ إِنَّنِي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏1‏:‏ 3‏]‏

/ وَسئلَ ـ رحمه الله تعالي ـ عن طائفتين يزعمان أنهما من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، يتداعيان بدعوة الجاهلية؛ كأسد، وهلال، وثعلبة، وحرام، وغير ذلك‏.‏ وبينهم أحقاد ودماء؛ فإذا تراءت الفئتان سعي المؤمنون بينهم لقصد التأليف‏.‏ وإصلاح ذات البين، فيقول أولئك الباغون‏:‏ إن الله قد أوجب علينا طلب الثأر بقوله‏:‏ ‏{‏وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ‏}‏ إلي قوله‏:‏ ‏{‏وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 45‏]‏ ، ثم إن المؤمنين يعرفونهم أن هذا الأمر يفضي إلي الكفر؛ من قتل النفوس، ونهب الأموال‏.‏‏.‏ فيقولون‏:‏ نحن لنا عليهم حقوق، فلا نفارق حتى نأخذ ثأرنا بسيوفهم، ثم يحملون عليهم، فمن انتصر منهم بغي وتعدي وقتل النفس، ويفسدون في الأرض‏:‏ فهل يجب قتال الطائفة الباغية وقتلها، بعد أمرهم بالمعروف‏؟‏ أو ماذا يجب علي الإمام أن يفعل بهذه الطائفة الباغية‏؟‏

فأجاب‏:‏

الحمد لله، قتال هاتين الطائفتين حرام بالكتاب والسنة والإجماع، حتى قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إذا التقي المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار‏)‏‏.‏ قيل‏:‏ يارسول الله، هذا القاتل، فما بال المقتول‏؟‏ قال‏:‏ /‏(‏إنه أراد قتل صاحبه‏)‏، وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض‏)‏، وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا، ألا ليبلغ الشاهد منكم الغائب، فرب مبلغ أوعيمن سامع‏)‏‏.‏

والواجب في مثل هذا ما أمر الله به ورسوله، حيث قال‏:‏ ‏{‏وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏9، 10‏]‏، فيجب الإصلاح بين هاتين الطائفتين، كما أمر الله تعالي‏.‏

والإصلاح له طرق‏:‏

منها‏:‏ أن تجمع أموال الزكوات وغيرها حتى يدفع في مثل ذلك فإن الغرم لإصلاح ذات البين، يبيح لصاحبه أن يأخذ من الزكاة بقدر ما غرم، كما ذكره الفقهاء من أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهما، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لقبيصة بن مخارق‏:‏ ‏(‏إن المسألة لا تحل إلا لثلاثة‏:‏ لرجل تحمل حمالة فيسأل حتى يجد حمالته، ثم يمسك، ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فيسأل حتى يجد سدادًا من عيش، ثم يمسك ، ورجل أصابته فاقة حتى يقوم ثلاثة من ذوي الحجي من قومه، فيقولون‏:‏ قد أصابت فلانًا فاقة، فيسأل، /حتى يجد قوامًا من عيش، وسدادًا من عيش، ثم يمسك، وما سوي ذلك من المسألة فإنه يأكله صاحبه سحتًا‏)‏‏.‏

ومن طرق الصلح‏:‏ أن تعفو إحدي الطائفتين أو كلاهما عن بعض ما لها عند الأخري من الدماء والأموال ‏{‏فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ‏}‏ ‏[‏الشوري‏:‏ 40‏]‏‏.‏

ومن طرق الصلح‏:‏ أن يحكم بينهما بالعدل، فينظر ما أتلفته كل طائفة من الأخري من النفوس والأموال، فيتقاصان ‏{‏الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 178‏]‏، وإذا فضل لإحداهما علي الأخري شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان، فإن كان يجهل عدد القتلي، أو مقدار المال، جعل المجهول كالمعدوم، وإذا ادعت إحداهما علي الأخري بزيادة، فإما أن تحلفها علي نفي ذلك، وإما أن تقيم البينة، وإما تمتنع عن اليمين فيقضي برد اليمين أو النكول‏.‏

فإن كانت إحدي الطائفتين تبغي بأن تمتنع عن العدل الواجب، ولا تجيب إلي أمر الله ورسوله، وتقاتل علي ذلك أو تطلب قتال الأخري وإتلاف النفوس والأموال، كما جرت عادتهم به؛ فإذا لم يقدر علي كفها إلا بالقتل قوتلت حتى تفيء إلي أمر الله، وإن أمكن أن تلزم بالعدل بدون القتال / مثل أن يعاقب بعضهم، أو يحبس، أو يقتل من وجب قتله منهم، ونحو ذلك، عمل ذلك، ولا حاجة إلي القتال‏.‏

وأما قول القائل‏:‏ إن الله أوجب علينا، طلب الثأر، فهو كذب علي الله ورسوله؛ فإن الله لم يوجب علي من له عند أخيه المسلم المؤمن مظلمة من دم أو مال أو عرض أن يستوفي ذلك، بل لم يذكر حقوق الآدميين في القرآن إلا ندب فيها إلي العفو، فقال تعالي‏:‏‏{‏ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 45‏]‏، وقال تعالي‏:‏ ‏{‏فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إَلاَّ أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 237‏]‏‏.‏

وأما قوله تعالي‏:‏ ‏{‏وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 45‏]‏، فهذا مع أنه مكتوب علي بني إسرائيل، وإن كان حكمنا كحكمهم مما لم ينسخ من الشرائع، فالمراد بذلك التسوية في الدماء بين المؤمنين، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏المسلمون تتكافأ دماؤهم وهم يد علي من سواهم‏)‏‏.‏ ‏(‏فالنفس بالنفس‏)‏ وإن كان القاتل رئيسًا مطاعًا من قبيلة شريفة والمقتول سوقي طارف، وكذلك إن كان كبيرًا وهذا صغيرًا، أو هذا غنيا وهذا فقيرًا وهذا عربيا وهذا عجميا، أو هذا هاشميا وهذا قرشيا‏.‏ وهذا رد لما كان عليه / أهل الجاهلية من أنه إذا قتل كبير من القبيلة قتلوا به عددًا من القبيلة الأخري غير قبيلة القاتل، وإذا قتل ضعيف من قبيلة لم يقتلوا قاتله إذا كان رئيسًا مطاعًا، فأبطل الله ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ‏}‏ فالمكتوب عليهم هو العدل، وهو كون النفس بالنفس؛ إذ الظلم حرام‏.‏ وأما استيفاء الحق فهو إلي المستحق، وهذا مثل قوله‏:‏ ‏{‏وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏33‏]‏، أي‏:‏ لا يقتل غير قاتله‏.‏

وأما إذا طلبت إحدي الطائفتين حكم الله ورسوله، فقالت الأخري نحن نأخذ حقنا بأيدينا في هذا الوقت، فهذا من أعظم الذنوب الموجبة عقوبة هذا القاتل الظالم الفاجر، وإذا امتنعوا عن حكم الله ورسوله ولهم شوكة وجب علي الأمير قتالهم؛ وإن لم يكن لهم شوكة‏:‏ عرف من امتنع من حكم الله ورسوله، وألزم بالعدل‏.‏

وأما قولهم‏:‏ لنا عليهم حقوق من سنين متقادمة‏.‏ فيقال لهم نحن نحكم بينكم في الحقوق القديمة والحديثة، فإن حكم الله ورسوله يأتي علي هذا‏.‏

وأما من قتل أحدًا من بعد الاصطلاح، أو بعد المعاهدة والمعاقدة‏:‏ فهذا يستحق القتل، حتى قالت طائفة من العلماء‏:‏ إنه يقتل حدًا، ولا يجوز العفو عنه لأولياء المقتول، وقال الأكثرون‏:‏ بل قتله قصاص، والخيار فيه إلي أولياء المقتول‏.‏

/وإن كان الباغي طائفة فإنهم يستحقون العقوبة، وإن لم يمكن كف صنيعهم إلا بقتالهم قوتلوا، وإن أمكن بما دون ذلك عوقبوا بما يمنعهم من البغي والعدوان ونقض العهد والميثاق، قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة عند استه بقدر غدرته، فيقال‏:‏ هذه غدرة فلان‏)‏، وقد قال تعالي‏:‏ ‏{‏فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 178‏]‏، قالت طائفة من العلماء‏:‏ المعتدي هو القاتل بعد العفو، فهذا يقتل حتمًا‏.‏ وقال آخرون‏:‏ بل يعذب بما يمنعه من الاعتداء‏.‏ والله أعلم‏.‏

 وَسئلَ ـ رحمه الله تعالي ـ عن أقوام لم يصلوا ولم يصوموا، والذي يصوم لم يصل، ومالهم حرام، ويأخذون أموال الناس، ويكرمون الجار والضعيف، ولم يعرف لهم مذهب، وهم مسلمون‏؟‏

فأجاب‏:‏

الحمد لله، هؤلاء وإن كانوا تحت حكم ولاة الأمور فإنه يجب أن يأمروهم بإقامة الصلاة، ويعاقبوا علي تركها، وكذلك الصيام‏.‏ وإن أقروا بوجوب الصلاة الخمس وصيام رمضان والزكاة المفروضة، وإلا فمن لم يقر بذلك فهو كافر، وإن أقروا بوجوب الصلاة وامتنعوا عن إقامتها عوقبوا حتى / يقيموها، ويجب قتل كل من لم يصل إذا كان بالغًا عاقلاً عند جماهير العلماء، كمالك، والشافعي، وأحمد، وكذلك تقام عليهم الحدود‏.‏

وإن كانوا طائفة ممتنعة ذات شوكة، فإنه يجب قتالهم حتى يلتزموا أداء الواجبات الظاهرة والمتواترة، كالصلاة والصيام، والزكاة، وترك المحرمات؛ كالزنا، والربا، وقطع الطريق، ونحو ذلك‏.‏ ومن لم يقر بوجوب الصلاة والزكاة فإنه كافر يستتاب، فإن تاب وإلا قتل‏.‏ ومن لم يؤمن بالله ورسوله واليوم الآخر والجنة والنار فهو كافر، أكفر من اليهود والنصاري‏.‏ وعقوق الوالدين من الكبائر الموجبة للنار‏.‏

 وَسئلَ ـ رحمه الله تعالي ـ عن أقوام مقيمون في الثغور، يغيرون علي الأرمن وغيرهم، ويكسبون المال وينفقونه علي الخمر والزنا‏:‏ هل يكونون شهداء إذا قتلوا ‏؟‏

فأجاب‏:‏

الحمد لله، إن كانوا إنما يغيرون علي الكفار المحاربين، فإنما الأعمال بالنيات‏.‏ وقد قالوا‏:‏ يا? رسول الله، الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية؛ ويقاتل رياء، فأي ذلك في سبيل الله‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله‏)‏، فإن كان أحدهم لا يقصد إلا أخذ المال، /وإنفاقه في المعاصي، فهؤلاء فساق مستحقون للوعيد، وإن كان مقصودهم أن تكون كلمة الله هي العليا، ويكون الدين لله، فهؤلاء مجاهدون، لكن إذا كانت لهم كبائر كان لهم حسنات وسيئات، وأما إن كانوا يغيرون علي المسلمين الذين هناك، فهؤلاء مفسدون في الأرض، محاربون لله ورسوله مستحقون للعقوبة البليغة في الدنيا والآخرة، والله أعلم‏.‏

 وسئل ـ رحمه الله تعالي ـ عن جندي مع أمير، وطلع السلطان إلي الصيد، ورسم السلطان بنهب ناس من العرب وقتلهم، فطلع إلي الجبل فوجد ثلاثين نفرًا فهربوا، فقال الأمير‏:‏ سوقوا خلفهم، فردوا عليهم ليحاربوا، فوقع من الجندي ضربة في واحد فمات‏:‏ فهل عليه شيء أم لا‏؟‏

فأجاب‏:‏

الحمد لله رب العالمين، إذا كان هذا المطلوب من الطائفة المفسدة الظلمة الذين خرجوا عن الطاعة وفارقوا الجماعة وعدوا علي المسلمين في دمائهم وأموالهم بغير حق، وقد طلبوا ليقام فيهم أمر الله ورسوله، فهذا الذي عاد منهم قاتلاً يجوز قتاله، ولا شيء علي من قتله علي الوجه المذكور، بل المحاربون يستوي فيهم المعاون والمباشر عند جمهور الأئمة؛ كأبي حنيفة، ومالك، وأحمد‏.‏ فمن كان معاونا كان حكمه حكمهم‏.‏

/ وسـئل ـ رحمه الله تعالي ـ عن ‏[‏الأخوة‏]‏ التي يفعلها بعض الناس في هذا الزمان، والتزام كل منهم بقوله‏:‏ إن مالي مالك، ودمي دمك، وولدي ولدك، ويقول الآخر كذلك، ويشرب أحدهم دم الآخر‏:‏ فهل هذا الفعل مشروع، أم لا‏؟‏ وإذا لم يكن مشروعًا مستحسنًا‏:‏ فهل هو مباح ، أم لا‏؟‏ وهل يترتب علي ذلك شيء من الأحكام الشرعية التي تثبت بالأخوة الحقيقية، أم لا‏؟‏ وما معني الأخوة التي آخي بها النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار‏؟‏

فأجاب‏:‏

الحمد لله رب العالمين، هذا الفعل علي هذا الوجه المذكور ليس مشروعًا باتفاق المسلمين؛ وإنما كان أصل الأخوة أن النبي صلى الله عليه وسلم آخي بين المهاجرين والأنصار، وحالف بينهم في دار أنس بن مالك، كما آخي بين سعد بن الربيع وعبد الرحمن بن عوف، حتى قال سعد لعبد الرحمن ‏:‏ خذ شطر مالي ، واخـتر إحدي زوجتي حتى أطلقها وتنكحها فقال عبد الرحمن‏:‏ بارك الله لك في مالك وأهلك ، دلوني علي السوق‏.‏ وكما آخي بين سلمان الفارسي وأبي الدرداء‏.‏ وهذا كله في الصحيح‏.‏

/وأما ما يذكر بعض المصنفين في ‏[‏السيرة‏]‏ من أن النبي صلى الله عليه وسلم آخي بين علي وأبي بكر، ونحو ذلك‏:‏ فهذا باطل باتفاق أهل المعرفة بحديثه؛ فإنه لم يؤاخ بين مهاجر ومهاجر، وأنصاري وأنصاري، وإنما آخي بين المهاجرين والأنصار، وكانت المؤاخاة والمحالفة يتوارثون بها دون أقاربهم، حتى أنزل الله تعالي‏:‏ ‏{‏وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 75‏]‏، فصار الميراث بالرحم دون هذه المؤاخاة والمحالفة‏.‏

وتنازع العلماء في مثل هذه المحالفة والمؤاخاة‏:‏ هل يورث بها عند عدم الورثة من الأقارب والموالي‏؟‏ علي قولين‏:‏ أحدهما‏:‏ يورث بها، وهو مذهب أبي حنيفة، وأحمد في إحدي الروايتين؛ لقوله تعالي‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 33‏]‏ والثاني‏:‏ لا يورث بها بحال، وهو مذهب مالك، والشافعي، وأحمد في الرواية المشهورة عند أصحابه‏.‏ وهؤلاء يقولون‏:‏ هذه الآية منسوخة‏.‏

وكذلك تنازع الناس‏:‏ هل يشرع في الإسلام أن يتآخي اثنان ويتحالفا كما فعل المهاجرون والأنصار‏؟‏ فقيل‏:‏ إن ذلك منسوخ، لما رواه مسلم في صحيحه عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏لا حِلْف في الإسلام، وما كان من حلف في الجاهلية فلم يزده الإسلام إلا شدة‏)‏؛ ولأن الله قد جعل المؤمنين إخوة بنص القرآن،وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏‏(‏المسلم أخو / المسلم،لا يسلمه، ولا يظلمه،والذي نفسي بيده،لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه من الخير ما يحبه لنفسه‏)‏، فمن كان قائمًا بواجب الإيمان كان أخا لكل مؤمن، ووجب علي كل مؤمن أن يقوم بحقوقه،وإن لم يجر بينهما عقد خاص؛فإن الله ورسوله قد عقدا الأخوة بينهما بقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏10‏]‏، وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏وددت أني قد رأيت إخواني‏)‏‏.‏

ومن لم يكن خارجًا عن حقوق الإيمان وجب أن يعامل بموجب ذلك، فيحمد علي حسناته، ويوالي عليها، وينهي عن سيئاته، ويجانب عليها، بحسب الإمكان، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا‏)‏ قلت‏:‏ يا رسول الله، أنصره مظلومًا فكيف أنصره ظالمًا‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏تمنعه من الظلم، فذلك نصرك إياه‏)‏‏.‏

والواجب علي كل مسلم أن يكون حبه وبغضه، وموالاته ومعاداته، تابعًا لأمر الله ورسوله‏.‏ فيحب ما أحبه الله ورسوله، ويبغض ما أبغضه الله ورسوله، ويوالي من يوالي الله ورسوله، ويعادي من يعادي الله ورسوله، ومن كان فيه ما يوالي عليه من حسنات وما يعادي عليه من سيئات عومل بموجب ذلك، كفساق أهل الملة؛ إذ هم مستحقون للثواب والعقاب، والموالاة والمعاداة، والحب والبغض، بحسب ما فيهم من البر والفجور، فإن‏:‏ ‏{‏فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ‏}‏ ‏[‏الزلزلة‏:‏ 7، 8‏]‏،/ وهذا مذهب أهل السنة والجماعة، بخلاف الخوارج والمعتزلة، وبخلاف المرجئة والجهمية؛ فإن أولئك يميلون إلي جانب، وهؤلاء إلي جانب، وأهل السنة والجماعة وسط‏.‏ ومن الناس من يقول‏:‏ تشرع تلك المؤاخاة والمحالفة، وهو يناسب من يقول‏:‏ بالتوارث بالمحالفة‏.‏

لكن لا نزاع بين المسـلمين في أن ولد أحدهما لا يصير ولد الآخر بإرثه مع أولاده، والله ـ سبحانه ـ قد نسخ التبني الذي كان في الجاهلية، حيث كان يتبني الرجل ولد غيره، قال الله تعالي‏:‏ ‏{‏مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءكُمْ أَبْنَاءكُمْ ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 4‏]‏، وقال تعالي‏:‏ ‏{‏ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا آبَاءهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 5‏]‏‏.‏

وكذلك لا يصير مال كل واحد منهما مالاً للآخر يورث عنه ماله؛ فإن هذا ممتنع من الجانبين، ولكن إذا طابت من نفس كل واحد منهما بما يتصرف فيه الآخر من ماله فهذا جائز، كما كان السلف يفعلون، وكان أحدهما يدخل بيت الآخر ويأكل من طعامه مع غيبته؛ لعلمه بطيب نفسه بذلك، كما قال تعالي‏:‏ ‏{‏أَوْ صَدِيقِكُمْ ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 61‏]‏

وأما شرب كل واحد منهما دم الآخر، فهذا لا يجوز بحال، وأقل ما في ذلك ـ مع النجاسة ـ التشبيه باللذين يتآخيين متعاونين علي الإثم والعدوان؛/ إما علي فواحش، أو محبة شيطانية، كمحبة المردان ونحوهم، وإن أظهروا خلاف ذلك من اشتراك في الصنائع ونحوها، وإما تعاون علي ظلم الغير، وأكل مال الناس بالباطل؛ فإن هذا من جنس مؤاخاة بعض من ينتسب إلي المشيخة والسلوك للنساء، فيؤاخي أحدهم المرأة الأجنبية، ويخلو بها‏.‏ وقد أقر طوائف من هؤلاء بما يجري بينهم من الفواحش‏.‏ فمثل هذه المؤاخاة وأمثالها مما يكون فيه تعاون علي ما نهي الله عنه ـ كائنًا ما كان ـ حرام باتفاق المسلمين‏.‏

وإنما النزاع في مؤاخاة يكون مقصودهما بها التعاون علي البر والتقوي، بحيث تجمعهما طاعة الله، وتفرق بينهما معصية الله، كما يقولون‏:‏ تجمعنا السنة وتفرقنا البدعة فهذه التي فيها النزاع فأكثر العلماء لا يرونها استغناء بالمؤاخاة الإيمانية التي عقدها الله ورسوله؛ فإن تلك كافية محصلة لكل خير، فينبغي أن يجتهد في تحقيق أداء واجباتها، إذ قد أوجب الله للمؤمن علي المؤمن من الحقوق ما هو فوق مطلوب النفوس، ومنهم من سوغها علي الوجه المشروع إذا لم تشتمل علي شيء من مخالفة الشريعة‏.‏

وأما أن تقال علي المشاركة في الحسنات والسيئات، فمن دخل منهما الجنة أدخل صاحبه، ونحو ذلك مما قد يشرطه بعضهم علي بعض، فهذه الشروط وأمثالها لا تصح ولا يمكن الوفاء بها؛ فإن الشفاعة لا تكون / إلا بإذن الله، والله أعلم بما يكون من حالهما‏.‏ وما يستحقه كل واحد منهما، فكيف يلزم المسلم ما ليس إليه فعله، ولا يعلم حاله فيه، ولا حال الآخر‏؟‏‏!‏ ولهذا نجد هؤلاء الذين يشترطون هذه الشروط لا يدرون ما يشرطون، ولو استشعر أحدهم أنه يؤخذ منه بعض ما له في الدنيا فالله أعلم هل كان يدخل فيها، أم لا‏؟‏

وبالجملة فجميع ما يقع بين الناس من الشــروط والعقود والمحالفات ـ في الأخوة وغيرها ـ ترد إلي كتاب الله وسنة رسوله، فكل شرط يوافق الكتاب والسنة يوفي به، و‏(‏من اشترط شرطًا ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط، كتاب الله أحق، وشرطه أوثق‏)‏، فمتي كان الشرط يخالف شرط الله ورسوله كان باطلاً؛ مثل أن يشترط أن يكون ولد غيره ابنه، أو عتق غير مولاه، أو أن ابنه أو قريبه لا يرثه، أو أنه يعاونه علي كل ما يريد، وينصره علي كل من عاداه، سـواء كان بحق أو بباطل، أو يطيعه في كل ما يأمره به، أو أنه يدخله الجنة ويمنعه من النار مطلقًا، ونحو ذلك من الشروط‏.‏ وإذا وقعت هذه الشروط وَفَّي منها بما أمر الله به ورسوله، ولم يوف منها بما نهي الله عنه ورسوله‏.‏ وهذا متفق عليه بين المسلمين‏.‏ وفي المباحات نزاع وتفصيل ليس هذا موضعه‏.‏

/وكذا في شروط البيوع، والهبات، والوقوف، والنذور، وعقود البيعة للأئمة، وعقود المشايخ، وعقود المتآخيين، وعقود أهل الأنساب والقبائل، وأمثال ذلك، فإنه يجب علي كل أحد أن يطيع الله ورسوله في كل شيء، ويجتنب معصية الله ورسوله في كل شيء، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق‏.‏ ويجب أن يكون الله ورسوله أحب إليه من كل شيء، ولا يطيع إلا من آمن بالله ورسوله‏.‏ والله أعلم‏.‏

/ باب حكم المرتد

 سئل شيخ الإسلام ـ رضي الله عنه ـ عن رجلين تكلما في ‏[‏مسألة التأبير‏]‏ فقال أحدهما‏:‏ من نقص الرسول صلى الله عليه وسلم، أو تكلم بما يدل علي نقص الرسول كفر، لكن تكفير المطلق لا يستلزم تكفير المعين؛ فإن بعض العلماء قد يتكلم في مسألة باجتهاده فيخطئ فيها فلا يكفر، وإن كان قد يكفر من قال ذلك القول إذا قامت عليه الحجة المكفرة، ولو كفرنا كل عالم بمثل ذلك لزمنا أن نكفر فلانا ـ وسمي بعض العلماء المشهورين الذين لا يستحقون التكفير وهو الغزالي ـ فإنه ذكر في بعض كتبه تخطئة الرسول في مسألة تأبير النخل‏:‏ فهل يكون هذا تنقيصًا بالرسول بوجه من الوجوه‏؟‏ وهل عليه في تنزيه العلماء من الكفر إذا قالوا مثل ذلك تعزير، أم لا‏؟‏ وإذا نقل ذلك وتعذر عليه في الحال نفس الكتاب الذي نقله منه وهو معروف بالصدق‏:‏ فهل عليه في ذلك تعزير أم لا‏؟‏ وسواء أصاب في النقل عن العالم أم أخطأ‏؟‏ وهل يكون في ذلك تنقيص بالرسول صلى الله عليه وسلم ومن اعتدي علي مثل هذا، أو نسبه إلي تنقيص بالرسول، أو العلماء، وطلب عقوبته علي ذلك‏:‏ فما يجب عليه‏؟‏ أفتونا مأجورين‏؟‏

/فأجاب‏:‏

الحمد لله، ليس في هذا الكلام تنقص بالرسول صلى الله عليه وسلم بوجه من الوجوه باتفاق علماء المسلمين، ولا فيه تنقص لعلماء المسلمين، بل مضمون هذا الكلام تعظيم الرسول وتوقيره، وأنه لا يتكلم في حقه بكلام فيه نقص، بل قد أطلق القائل تكفير من نقص الرسول صلى الله عليه وسلم أو تكلم بما يدل علي نقصه، وهذا مبالغة في تعظيمه، ووجوب الاحتراز من الكلام الذي فيه دلالة علي نقصه‏.‏

ثم هو مع هذا بين أن علماء المسلمين المتكلمين في الدنيا باجتهادهم لا يجوز تكفير أحدهم بمجرد خطأ أخطأه في كلامه، وهذا كلام حسن تجب موافقته عليه؛ فإن تسليط الجهال علي تكفير علماء المسلمين من أعظم المنكرات، وإنما أصل هذا من الخوارج والروافض الذين يكفرون أئمة المسلمين؛لما يعتقدون أنهم أخطؤوا فيه من الدين‏.‏ وقد اتفق أهل السنة والجماعة علي أن علماء المسلمين لا يجوز تكفيرهم بمجرد الخطأ المحض، بل كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس كل من يترك بعض كلامه لخطأ أخطأه يكفر ولا يفسق، بل ولا يأثم، فإن الله تعالي قال في دعاء المؤمنين‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 286‏]‏، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أن الله تعالي قال‏:‏ قد فعلت‏)‏‏.‏

واتفق علماء المسلمين علي أنه لا يكفر أحد من علماء المسلمين المنازعين في عصمة الأنبياء، والذين قالوا‏:‏ إنه يجوز عليهم الصغائر والخطأ ولا يقرون / علي ذلك لم يكفر أحد منهم علي ذلك باتفاق المسلمين؛ فإن هؤلاء يقولون‏:‏ إنهم معصومون من الإقرار علي ذلك، ولو كفر هؤلاء لزم تكفير كثير من الشافعية، والمالكية، والحنفية، والحنبلية، والأشعرية، وأهل الحديث، والتفسير، والصوفية، الذين ليسوا كفارًا باتفاق المسلمين، بل أئمة هؤلاء يقولون بذلك‏.‏

فالذي حكاه عن الشيخ أبي حامد الغزالي قد قال مثله أئمة أصحاب الشافعي أصحاب الوجوه الذين هم أعظم في مذهب الشافعي من أبي حامد، كما قال الشيخ أبو حامد الإسفرائيني، الذي هو إمام المذهب بعد الشافعي، وابن سريج في تعليقه‏:‏ وذلك أن عندنا أن النبي صلى الله عليه وسلم يجوز عليه الخطأ كما يجوز علينا، ولكن الفرق بيننا أنا نقر علي الخطأ والنبي صلى الله عليه وسلم لا يقر عليه، وإنما يسهو ليسن، وروي عنه أنه قال‏:‏ ‏(‏إنما أسهو لأسن لكم‏)‏‏.‏

وهذه المسألة قد ذكرها في أصول الفقه هذا الشيخ أبو حامد، وأبو الطيب الطبري، والشيخ أبو إسحاق الشيرازي، وكذلك ذكرها بقية طوائف أهل العلم؛ من أصحاب مالك، والشافعي، وأحمد، وأبي حنيفة ومنهم من ادعي إجماع السلف علي هذا القول، كما ذكر ذلك عن أبي سليمان الخطابي ونحوه، ومع هذا فقد اتفق المسلمون علي أنه لا يكفر أحد من هؤلاء الأئمة، ومن كفرهم بذلك استحق العقوبة الغليظة التي تزجره / وأمثاله عن تكفير المسلمين، وإنما يقال في مثال ذلك‏:‏ قولهم صواب أو خطأ‏.‏ فمن وافقهم قال‏:‏ إن قولهم الصواب‏.‏ ومن نازعهم قال‏:‏ إن قولهم خطأ، والصواب قول مخالفهم‏.‏

وهذا المسؤول عنه كلامه يقتضي أنه لا يوافقهم علي ذلك، لكنه ينفي التكفير عنهم‏.‏ ومثل هذا تجب عقوبة من اعتدي عليه، ونسبه إلي تنقيص الرسول صلى الله عليه وسلم أو العلماء، فإنه مصرح بنقيض هذا، وهذا‏.‏

وقد ذكر القاضي عياض هذه المسألة، وهو من أبلغ القائلين بالعصمة، قسم الكلام في هذا الباب، إلي أن قال‏:‏ ‏[‏الوجه السابع‏]‏‏:‏ أن يذكر ما يجوز علي النبي صلى الله عليه وسلم، ويختلف في إقراره عليه، وما يطرأ من الأمور البشرية منه ويمكن إضافتها إليه، أو يذكر ما امتحن به وصبر في ذات الله علي شدته من مقاسات أعدائه وأذاهم له، ومعرفة ابتداء حاله، وسيرته، وما لقيه من بؤس زمنه، ومر عليه من معانات عيشه، كل ذلك علي طريق الرواية، ومذاكرة العلم ومعرفة ما صحت به العصمة للأنبياء، وما يجوز عليهم‏.‏ فقال‏:‏ هذا فن خارج من هذه الفنون الستة؛ ليس فيه غمض ولا نقص ولا إزراء ولا استخفاف، ولا في ظاهر اللفظ ولا في مقصد اللافظ، لكن يجب أن يكون الكلام مع أهل العلم، وطلبة الدين ممن يفهم مقاصده، ويحققون فوائده، ويجنب ذلك ممن عساه لا يفقه، أو يخشي به فتنة‏.‏

/وقد ذكر القاضي عياض قبل هذا‏:‏ أن يقول القائل شيئاً من أنواع السب حاكيًا له عن غيره، وآثرًا له عن سواه‏:‏ فهذا ينظر في صورة حكايته، وقرينة مقالته، ويختلف الحكم باختلاف ذلك علي ‏[‏أربعة وجوه‏]‏ الوجوب، والندب، والكراهة، والتحريم‏.‏ ثم ذكر أنه يحمل من ذلك ما ذكره علي وجه الشهادة ونحوها مما فيه إقامة الحكم الشرعي علي القائل، أو علي وجه الرذالة والنقص علي قائله، بخلاف من ذكره لغير هذين‏.‏ قال‏:‏ وليس التفكه بعرض النبي صلى الله عليه وسلم، والتمضمض بسوء ذكره لأحد لاذاكرًا، ولا آثرًا لغير غرض شرعي مباح‏.‏

فقد تبين من كلام القاضي عياض أن ما ذكره هذا القائل ليس من هذا الباب فإنه من مسائل الخلاف، وأن ما كان من هذا الباب ليس لأحد أن يذكره لغير غرض شرعي مباح‏.‏

وهذا القائل إنما ذكر لدفع التكفير عن مثل الغزالي وأمثاله من علماء المسلمين، ومن المعلوم أن المنع من تكفير علماء المسلمين الذين تكلموا في هذا الباب، بل دفع التكفير عن علماء المسلمين وإن أخطؤوا ـ هو من أحق الأغراض الشرعية، حتى لو فرض أن دفع التكفير عن القائل يعتقد أنه ليس بكافر حماية له، ونصرًا لأخيه المسلم، لكان هذا غرضًا شرعيًا حسنًا، وهو إذا اجتهد في ذلك فأصاب فله أجران، وإن اجتهد فيه فأخطأ فله أجر واحد‏.‏

/فبكل حال هذا القائل محمود علي ما فعل، مأجور علي ذلك، مثاب عليه إذا كانت له فيه نية حسنة ، والمنكر لما فعله أحق بالتعزير منه ؛ فإن هذا يقتضي قوله القدح في علماء المسلمين من الكفر ، ومعلـوم أن الأول أحق بالتعزير من الثاني إن وجب التعزير لأحدهما ، وإن كان كل منهما مجتهدًا اجتهادًا سائغًا بحيث يقصد طاعـة الله ورسوله بحسب استطاعته فلا إثم علي واحـد منهمـا ، وسواء أصاب في هذا النقل أو أخطاء فليس في ذلك تنقيص للنبي صلى الله عليه وسلم ‏.‏

وكذلك أحضر النقل أو لم يحضره؛ فإنه ليس في حضوره فائدة، إذ ما نقله عن الغزالي قد قال مثله من علماء المسلمين من لا يحصي عددهم إلا الله تعالي، وفيهم من هو أجل من الغزالي، وفيهم من هو دونه‏.‏ ومن كفر هؤلاء استحق العقوبة باتفاق المسلمين، بل أكثر علماء المسلمين وجمهور السلف يقولون مثل ذلك، حتى المتكلمون، فإن أبا الحسن الأشعري قال‏:‏ أكثر الأشعرية والمعتزلة يقولون بذلك، ذكره في ‏[‏أصول الفقه‏]‏ وذكره صاحبه أبو عمرو بن الحاجب‏.‏ والمسألة عندهم من الظنيات، كما صرح بذلك الأستاذ أبو المعالي، وأبو الحسن الآمدي، وغيرهما، فكيف يكفر علماء المسلمين في مسائل الظنون‏؟‏‏!‏ أم كيف يكفر جمهور علماء المسلمين، أو جمهور سلف الأئمة وأعيان العلماء بغير حجة أصلاً‏؟‏‏!‏ والله تعالى أعلم‏.‏